الاثنين، 1 سبتمبر 2014

جلق الشام - محمد مهدي الجواهري

الشاعر الأكثر محاكاة للواقع الذي يصف بلداً بعين مجردة لا تربطه بها وشائج المولد أو النشأة
الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي ولد في النجف عام 1900م لعائلة عرفت بثقافتها الواسعة حيث درس العلوم الإسلامية وحفظ قسطاً وافراً من الشعر العربي القديم، واهتم بالمتنبي واضطر أن يعيش معظم حياته في المنفى، وربما يعتبر الجواهري آخر عمالقة الشعر الكلاسيكي، فهو شاعر متمكن تنقلنا قصائده إلى العصر الذهبي للشعر العربي، وقد تكون قصيدته هذه أروع ما قيل في دمشق والتي جاءت على أوزان البحر البسيط.

شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّاً، ولا مَذِقا


وما وَجَدْتُ إلى لُقْياكِ مُنْعَطَفاً 
إلاّ إليكِ،ولا أَلْفَيْتُ مُفْتَرَقا

كنتِ الطَّريقَ إلى هاوٍ تُنازِعُهُ 
نفسٌ تَسُدُّ عليهِ دونَها الطُّرُقا

وكان قلبي إلى رُؤياكِ باصِرَتي
حتى اتَّهَمْتُ عليكِ العينَ والحَدَقا

شَمَمْتُ تُرْبَكِ أَسْتافُ الصِّبا مَرِحاً 
والشَّمْلُ مُؤْتَلِفاً، والعِقْدُ مُؤْتَلِقا

وسِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي بَلَداً
لكنْ كَمَنْ يَتَشَهّى وَجْهَ مَن عَشِقا

قالوا (دِمَشْقُ) و(بَغْدادٌ) فقلتُ هما 
فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما انْبَثَقا

ما تَعْجَبونَ؟ أَمِنْ مَهْدَيْنِ قد جُمِعا 
أَم تَوْأَمَيْنِ على عَهْدَيْهِما اتَّفَقا

أَم صامِدَيْنِ يَرُبَّانِ المَصيرَ مَعاً
حُبَّاً ويَقْتَسِمانِ الأَمْنَ والفَرَقا

يُهَدْهِدانِ لِساناً واحِداً ودَماً
صِنْواً، ومُعْتَقِداً حُرَّا،ً ومُنْطَلَقا

أَقْسَمْتُ بالاُمَّةِ اسْتَوْصى بها قَدَرٌ 
خَيراً، ولاءَمَ منها الخَلْقَ والخُلُقا

مَن قالَ أنْ ليسَ مِن معْنىً للفْظَتِها
بلا دِمَشْقَ وبَغدادٍ فقد صَدَقا

فلا رَعى اللهُ يوماً دسَّ بينهما
وَقيعَةً، ورَعى يَوْمَيْهِما ووَقى

يا جِلَّقَ الشَّامِ والأَعْوامُ تَجْمَعُ لي
سَبْعاً وسَبْعينَ ما الْتاما ولا افْتَرَقا

ما كانَ لي منهما يومانِ عِشْتُهُما
إلاّ وبالسُّؤْرِ مِن كَأْسَيْهِما شَرِقا

يُعاوِدانِ نِفاراً كلّما اصْطَحَبا
ويَنْسَيانِ هوىً كانا قدِ اغْتَبَقا

ورُحْتُ أَطْفو على مَوْجَيْهِما قَلِقاً 
أَكادُ أَحْسُدُ مَرْءًا فيهما غَرِقا

يا لَلشَّبابِ يَغارُ الحِلْمُ مِن شِرَةٍ
بهِ، وتَحْسُدُ فيهِ الحِنْكَةُ النَّزَقا

ولَلبَساطَةِ ما أَغْلى كَنائِزَها 
(قارونُ) يُرْخِصُ فيها التِّبْرَ والوَرِقا

تَلُمّ كأْسي ومَن أهْوى، وخاطِرَتي
وما تَجيشُ، وبَيْتَ الشِّعْرِ والوَرَقا

أَيَّامَ نَعْكِفُ بالحُسْنى على سَمَرٍ 
نُساقِطُ اللَّغوَ فيه كَيْفما اتَّفَقا

إذْ مسْكَةُ الرَّبَواتِ الخُضْرِ توسِعُنا 
بما تَفَتَّقَ مِن أنْسامِها عَبَقا

إذْ تُسْقِطُ (الهامَةُ) الإصْباحُ يُرْقِصُنا
و(قاسيُونُ) علينا يَنْشُرُ الشَّفَقا

نَرْعى الأَصيلَ لِداجي اللّيلِ يُسْلِمُنا
ومِن كُوىً خَفِراتٍ نَرقُبُ الغَسَقا

ومِن كُوىً خَفِراتٍ نَسْتَجِدُّ رُؤىً
نَشْوانَةً عَن رُؤىً مَمْلولَةٍ نَسَقا

آهٍ على الحُلْوِ في مرٍّ نَغَصُّ بهِ
تَقَطَّرَا عَسَلاً في السُّمِّ واصْطَفَقا

يا جِلَّقَ الشَّامِ إنّا خِلْقَةٌ عَجَبٌ 
لم يَدْرِ ما سِرُّها إلاّ الذي خَلَقا

إنّا لَنَخْنُقُ في الأَضْلاعِ غُرْبَتَنا 
وإنْ تَنَزَّتْ على أَحْداقِنا حُرَقا

مُعَذَّبونَ وجَنَّاتُ النَّعيمِ بنا
وعاطِشونَ ونَمْري الجَوْنَةَ الغَدَقا

وزَاحِفونَ بِأَجْسامٍ نَوابِضُها 
تَسْتَامُ ذِرْوَةَ (عِلِّيِّنَ) مُرْتَفَقا

نُغْني الحَياةَ ونَسْتَغْني كأنَّ لنا
رَأْدَ الضُّحى غَلَّةً والصُّبْحَ والفَلَقا

يا جِلَّقَ الشَّامِ كم مِن مَطْمَحٍ خَلَسٍ 
للمَرءِ في غَفْلَةٍ مِن دَهْرِهِ سُرِقا

وآخَرٍ سُلَّ مِن أنْيابِ مُفْتَرِسٍ 
وآخَرٍ تَحْتَ أَقْدامٍ لهُ سُحِقا

دامٍ صِراعُ أخي شَجوٍ وما خَلَقا
مِنَ الهُمومِ تُعَنِّيهِ، وما اخْتَلقَا

يَسْعى إلى مَطْمَحٍ حانَتْ وِلادَتُهُ 
في حينِ يَحْمِلُ شِلْواً مَطْمَحاً شُنِقا

حَرَّانَ حَيْرانَ أَقْوى في مُصامَدَةٍ
على السُّكوتِ، وخَيْرٌ مِنهُ إنْ نَطَقا

كَذاكَ كُلُّ الذينَ اسْتُودِعوا مُثُلاً 
كَذاكَ كلُّ الذينَ اسْتُرْهِنوا غَلَقا

كَذاكَ كانَ وما يَنْفَكُّ ذو كَلَفٍ
بِمَنْ تُعبِّدَ في الدُّنْيا أو انْعَتَقا


دِمَشْقُ عِشْتُكِ رَيْعاناً، وخافِقَةً 
ولِمَّةً، والعُيونَ السُّودَ، والأَرَقا

وها أَنا، ويَدي جِلْدٌ، وسالِفَتي
ثَلْجٌ، ووَجْهيَ عَظْمٌ كادَ أو عُرِقا

وأنتِ لم تَبْرَحي في النَّفْسِ عالِقَةً
دَمي ولَحْمِيَ والأنْفاسَ، والرَّمَقا

تُمَوِّجينَ ظِلالَ الذِّكْرَياتِ هَوىً 
وتُسْعِدينَ الأَسى، والهَمَّ والقَلََقا

فَخْراً دِمَشْقُ تَقاسَمْنا مُراهَقَةً 
واليومَ نَقْتَسِمُ الآلامَ والرَّهَقا

دِمَشْقُ صَبراً على البَلْوى فَكَمْ صُهِرَتْ
سَبائِكُ الذّهَبِ الغالي فما احْتَرَقا

على المَدى والعُروقُ الطُّهْرُ يَرْفُدُها 
نَسْغُ الحياةِ بَديلاً عن دَمٍ هُرِقا

وعندَ أَعْوادِكِ الخَضْراءِ بَهْجَتُها 
كالسِّنْدِيانَةِ مهما اسَّاقَطَتْ ورَقا